قدمت أوراق اعتمادي سفيرا في الهند منتصف عام ٢٠٠٦ ضمن مجموعة من السفراء، كنت الأخير بحسب التقاليد الدبلوماسية، وكان واضحا على تصرفات الرئيس «أبو بكر زين العابدين عبد الكلام» البساطة الشديدة وعدم التقيد بالمراسم المعتادة في مثل هذه المناسبات التي ينتظرها السفراء لالتقاط الصور التذكارية مع الملك أو رئيس الدولة، وحين جاء دوري وقفت أمامه وهو منشغل يقرأ في ورقة بيده، وبدأت بإلقاء كلمات تقليدية يعبر فيها السفير عن سعادته بتعيينه في هذا البلد أو ذاك وينقل عبرها تحيات رئيس الدولة، فقاطعني وقال (أعلم كل ذلك. تقدم وسلمني أوراقك)، ثم قال (نحن زملاء. من أي جامعة تخرجت؟) وكان يشير إلى أنني تخرجت مهندساً، قلت له (جامعة القاهرة).. فجاء رده السريع (جامعة عظيمة. تعال لنلتقط الصورة التذكارية).
التقيت الراحل «عبد الكلام» بعدها في مناسبات رسمية، وكان الوحيد من بين كبار المسؤولين في الهند الذي لا يشعر معه المرء عظمة الرجل وعلمه ونبوغه، بل كان شديد التواضع مع الجميع بغض النظر عن مواقعهم الرسمية.
ولد الرئيس الحادي عشر للهند (أبو بكر زين العابدين عبد الكلامAvul Pakir Jainulabdeen Abdul Kalam) في جنوب الهند عام ١٩٣١ بمقاطعة «تاميل ناندو»، وكان والده يعمل على قارب يعيش منه بنقل الحجاج الهندوس وإماما لمسجد صغير في القرية بعد أن فقدت عائلته ثروتها نتيجة التغيير الذي حدث على النشاط التجاري في المنطقة ووسائل المواصلات، فأصبحت الأسرة فقيرة واضطر لبيع الصحف لمساعدة أسرته، وبعد أن أنهى دراسته الثانوية انتقل إلى «مدراس» حيث التحق بجامعتها وحصل على شهادة في الفيزياء عام 1954، بعدها واصل دراسته متخصصا في هندسة الفضاء في معهد مدراس للتقنية، ثم التحق عام 1960 بمعهد تطوير تقنيات الفضاء التابع لمؤسسة أبحاث الدفاع وتطويرها، ثم منظمة أبحاث الفضاء الهندية حيث أشرف على إطلاق أول مركبة فضائية في يوليو 1980.
في السبعينات – ورغم معارضة الحكومة الاتحادية في البداية – خصصت رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي مبالغ من مخصصاتها السرية لمشروعي «الشيطان Devil» و«الشجاع Valiant» لتطوير الصواريخ بعيدة المدى، وأقنع عبد الكلام الحكومة بإخفاء حقيقة المشروع، ورغم الفشل الذي واجهه إلا أنه كان البداية لإطلاق مشروعات الصواريخ البعيدة والقصيرة المدى Agni و Prithvi، وكانت أعظم إنجازاته الإنسانية عام ١٩٩٨ تعاونه مع طبيب القلب «سوما راجو» لتطوير دعامات منخفضة الكلفة، ثم تصنيع كومبيوتر محمول للأغراض الصحية في المناطق النائية.
كان الراحل إلى جانب نبوغه العلمي مؤلفاً لعدد من الكتب مثل «أجنحة النار»، «الهند 2020 رؤية للألفية»، «مسيرتي»، «عقول مشتعلة: إطلاق عنان القوة الهندية الكامنة»، «الهند: روح لا تُقهر»، «الأسرة والأمة»، «مجموعة أشعار».
يتذكر «عبد الكلام» طفولته إذ كان الطفل الأصغر في الأسرة (أربعة إخوة وأخت واحدة) ويختصر ظروف حياته طفلا «ذات يوم كنت مع والدتي وإخوتي نتناول وجبة طعام، وكانت تناولني خبز الشباتي بكميات أكثر من إخوتي. بعد الغداء أخذني أخي الأكبر جانبا ووبخني قائلا إن والدتي تنازلت عن حصتها من الخبز وهي تتضور جوعا الآن. شعرت بجسدي يرتعش من الخجل. لم أتمالك نفسي وذهبت إليها لأرتمي في حضنها». لم يمتلك «عبد الكلام» تلفزيونا في حياته، وحين توفي في ٢٧ يوليو ٢٠١٥ لم يترك وراءه أي ثروة غير آلة الفينا الوترية الهندية، وقليل من الثياب، وكميات كبيرة من الكتب والمؤلفات الشعرية التي صاغها، وورث كل هذا أخوه الأكبر.
يقول «عبد الكلام» (إذا أردت تحقيق أحلامك فعليك أن تحلم أولا)، وهذه الكلمات البسيطة هي خلاصة سيرة رجل نشأ في أسرة مسلمة فقيرة، لكن أحلامه كانت محفزة له ليصبح واحدا من أشهر علماء الهند، ثم رابع رئيس مسلم لها.
* كاتب يمني وسفير سابق
التقيت الراحل «عبد الكلام» بعدها في مناسبات رسمية، وكان الوحيد من بين كبار المسؤولين في الهند الذي لا يشعر معه المرء عظمة الرجل وعلمه ونبوغه، بل كان شديد التواضع مع الجميع بغض النظر عن مواقعهم الرسمية.
ولد الرئيس الحادي عشر للهند (أبو بكر زين العابدين عبد الكلامAvul Pakir Jainulabdeen Abdul Kalam) في جنوب الهند عام ١٩٣١ بمقاطعة «تاميل ناندو»، وكان والده يعمل على قارب يعيش منه بنقل الحجاج الهندوس وإماما لمسجد صغير في القرية بعد أن فقدت عائلته ثروتها نتيجة التغيير الذي حدث على النشاط التجاري في المنطقة ووسائل المواصلات، فأصبحت الأسرة فقيرة واضطر لبيع الصحف لمساعدة أسرته، وبعد أن أنهى دراسته الثانوية انتقل إلى «مدراس» حيث التحق بجامعتها وحصل على شهادة في الفيزياء عام 1954، بعدها واصل دراسته متخصصا في هندسة الفضاء في معهد مدراس للتقنية، ثم التحق عام 1960 بمعهد تطوير تقنيات الفضاء التابع لمؤسسة أبحاث الدفاع وتطويرها، ثم منظمة أبحاث الفضاء الهندية حيث أشرف على إطلاق أول مركبة فضائية في يوليو 1980.
في السبعينات – ورغم معارضة الحكومة الاتحادية في البداية – خصصت رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي مبالغ من مخصصاتها السرية لمشروعي «الشيطان Devil» و«الشجاع Valiant» لتطوير الصواريخ بعيدة المدى، وأقنع عبد الكلام الحكومة بإخفاء حقيقة المشروع، ورغم الفشل الذي واجهه إلا أنه كان البداية لإطلاق مشروعات الصواريخ البعيدة والقصيرة المدى Agni و Prithvi، وكانت أعظم إنجازاته الإنسانية عام ١٩٩٨ تعاونه مع طبيب القلب «سوما راجو» لتطوير دعامات منخفضة الكلفة، ثم تصنيع كومبيوتر محمول للأغراض الصحية في المناطق النائية.
كان الراحل إلى جانب نبوغه العلمي مؤلفاً لعدد من الكتب مثل «أجنحة النار»، «الهند 2020 رؤية للألفية»، «مسيرتي»، «عقول مشتعلة: إطلاق عنان القوة الهندية الكامنة»، «الهند: روح لا تُقهر»، «الأسرة والأمة»، «مجموعة أشعار».
يتذكر «عبد الكلام» طفولته إذ كان الطفل الأصغر في الأسرة (أربعة إخوة وأخت واحدة) ويختصر ظروف حياته طفلا «ذات يوم كنت مع والدتي وإخوتي نتناول وجبة طعام، وكانت تناولني خبز الشباتي بكميات أكثر من إخوتي. بعد الغداء أخذني أخي الأكبر جانبا ووبخني قائلا إن والدتي تنازلت عن حصتها من الخبز وهي تتضور جوعا الآن. شعرت بجسدي يرتعش من الخجل. لم أتمالك نفسي وذهبت إليها لأرتمي في حضنها». لم يمتلك «عبد الكلام» تلفزيونا في حياته، وحين توفي في ٢٧ يوليو ٢٠١٥ لم يترك وراءه أي ثروة غير آلة الفينا الوترية الهندية، وقليل من الثياب، وكميات كبيرة من الكتب والمؤلفات الشعرية التي صاغها، وورث كل هذا أخوه الأكبر.
يقول «عبد الكلام» (إذا أردت تحقيق أحلامك فعليك أن تحلم أولا)، وهذه الكلمات البسيطة هي خلاصة سيرة رجل نشأ في أسرة مسلمة فقيرة، لكن أحلامه كانت محفزة له ليصبح واحدا من أشهر علماء الهند، ثم رابع رئيس مسلم لها.
* كاتب يمني وسفير سابق